خصوصيات بعض المؤمنين مع الملائكة
1- الملائكة ومريم عليهم السلام :
لقد أكرم الله مريم بنت عمران بأن أرسل لها الملائكة المقربين تخاطبها وتبشرها باصطفاء الله لها وتطهيرها وتفضيلها على نساء العالمين. قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) } [آل عمران : 42 - 43].
واذكر -أيها الرسول- حين قالت الملائكة: يا مريم إن الله اختاركِ لطاعته وطهَّركِ من الأخلاق الرذيلة، واختاركِ على نساء العالمين في زمانك.
يا مريم داومي على الطاعة لربك، وقومي في خشوع وتواضع، واسجدي واركعي مع الراكعين; شكرًا لله على ما أولاكِ من نعمه.
كما بشرتها الملائكة بعيسى ابن مريم ليكون وأمه آية للعالمين. قال تعالى:{ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) } [آل عمران : 45].
وَبَشَّرَتِ المَلاَئِكَةُ مَرْيَمَ،عَلَيهَا السَّلامُ،وَقَالَتْ لَها : إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِأنْ يَكُونَ لَكِ وَلَدٌ عَظِيمُ الشَّأنِ،وَيَكُونُ وُجُودُهُ وَخَلْقُهُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ،فَيَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . وَسَيَكُونُ الاسْمُ الذِي يَعْرِفُهُ بِهِ المُؤْمِنُونَ ( المَسِيحُ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ )،وَسَيَكُونُ وَجيهاً وَذَا مَكَانَةٍ عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنيا بِمَا يُوحِيهِ إليهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ،وَيَكُونُ وَجيهاً في الآخِرةِ بِأنْ يَجْعَلَهُ اللهُ شَفِيعاً لِمَنْ يَأذَنُ لَهُ بالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ .
وفي هذا دليل على أنه ليس كل من جاءه ملك يكون نبيا . بل هي صديقة كما قال تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (75) سورة المائدة
المَسيحُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ،أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِالرِّسَالَةِ،وَقَدْ تَقَدَّمَتْهُ رُسُلٌ مِنَ اللهِ،وَلَهُ أسْوَةٌ بِهِمْ . وَأمُّهُ مُؤْمِنَةٌ مٌصَدِّقَةٌ لَهُ ( صِدِّيقَةٌ - وَهَذا أعْلَى مَقَامَاتِهَا فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أنَّها لَيْسَتْ نَبِيّةً )،وَكَانَ المَسِيحُ وَأمُّهُ يَحْتَاجَانِ إلى الطَّعَامِ وَالغِذاءِ،وَمَا يَسْتَتْبِعُ الطَّعَامَ وَالغِذَاءَ،فَهُمَا مَخْلُوقَانِ مِنَ البَشَرِ،وَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلهاً خَالِقاً،وَلاَ رَبّاً مَعْبُوداً . فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدٌ كَيْفَ نُوَضِّحُ لَهُمُ الآيَاتِ وَنُظْهِرُهَا،ثُمَّ انْظُرْ،بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْضِيحِ،أيْنَ يَذْهَبُونَ،وَبأيِّ قَوْلٍ يَتَمَسَّكُونَ،وَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ؟
وقد قص الله لنا الحوار الذي دار بينها وبين الملك الذي حمل لها البشرى قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) } [مريم : 16 - 25]
واذكر يا محمد في القرآن مريم البتول وخبرها الصحيح الذي يتضمن ولادتها لعيسى ابنها عبد اللّه ورسوله إلى بني إسرائيل،ونفى الولد عن اللّه - سبحانه وتعالى - .
نشأت مريم بنت عمران في بيت كريم ونسب شريف،ونشأت عفيفة طاهرة فلما شبت وترعرعت تحت عناية اللّه ورعايته،وبلغت مبلغ النساء كان منها أن انتبذت أهلها،وجلست وحدها في خلوة للعبادة أو لقضاء بعض حاجاتها وكان ذلك في مكان جهة الشرق (و من هنا اتخذ المسيحيون قبلتهم ناحية الشرق).
وبينما هي في خلوتها إذ بجبريل روح القدس يتمثل لها بشرا سويا تام الخلقة مستوى الخلق لم ينقص منه شيء في رجولته.
فلما رأته على هذا الوضع قد اخترق عليها حجابها. ظنت به سوءا أو أنه يريد بها شرا فقالت له إنى أعوذ بالرحمن منك وألتجئ إلى اللّه أن يقيني شرك،ما كنت يا هذا رجلا نقيا.
وهذا دليل على عفافها وورعها حيث تعوذت باللّه من تلك الصورة الجميلة الفاتنة وكان تمثيله بتلك الصورة ابتلاء من اللّه لها وسبرا لعفتها. قال جبريل لها : إنما أنا رسول ربك الذي تستعيذين به،جئت لأهب لك غلاما زكيا طاهرا.
قالت مريم : أنى يكون لي غلام ؟ والحال أنى لم يمسني بشر في زواج شرعي ولم أك بغيا من البغايا!! وسؤالها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة اللّه،ولكن أرادت متعجبة كيف يكون هذا الولد ؟ هل هو من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه اللّه ابتداء ؟
قال الملك : الأمر كذلك (و المشار إليه أنى يكون لي غلام ؟ ) قال اللّه : هو على هين وقد خلقناه على هذا الوضع لنجعله آية للناس حيث يستدلون بخلقه على كمال القدرة،وتمام العظمة للّه - سبحانه وتعالى - .
وكان رحمة منا للخلق،وهكذا كل نبي يهدى الناس إلى الخير،ويرشدهم إلى الصراط المستقيم،وكان ذلك المذكور أمرا مقضيا ومقدرا من اللّه.
اطمأنت مريم إلى كلامه فدنا منها،ونفخ في جيب درعها أى نفخ في فتحة قميصها من أعلى،ووصلت النفخة إلى بطنها،وتنحت عن أهلها قاصدة مكانا قصيا بعيدا فألجأها المخاض متجهة إلى جذع النخلة لتستر به،وتعتمد عليه عند الولادة قالت :
يا ليتني مت قبل هذا الحادث،وكنت شيئا منسيا،تراها تمنت الموت خوفا من أن يظن بها السوء في دينها،أو يقع أحد بسبها في البهتان.
فناداها جبريل من تحتها إذا كانت هي على مكان مرتفع وقيل الذي ناداها هو عيسى الوليد،ناداها بألا تحزني ولا تتألمى.
فهذه آية اللّه الدالة على أن الأمر خارق للعادة،وأن للّه في خلقه شؤونا. فها هو ذا قد جعل لك ربك تحتك نهرا يفيض بالماء بعد أن كان جافا،وحركي جذع النخلة اليابسة تتساقط عليك رطبا جنيا شهيا،أليست هذه أمارات الرضا ؟ ودليلا على أن اللّه معك ولن ينساك يا مريم،فكلي من الرطب واشربى من النهر وقرى عينا،واهدئى بالا،واطمأني نفسا فاللّه معك،وحافظك من الناس،فإن رأيت من الناس أحدا فيه أمارة الاعتراض عليك فلا تكلميه،وقولي : إنى نذرت للرحمن صوما وسكوتا عن الكلام فلن أكلم اليوم إنسانا بل سألكم الملائكة،وأناجى ربي - سبحانه وتعالى - .
وقال تعالى : {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (12) سورة التحريم.
وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً آخَرَ لِلَّذِينَ آمَنُوا حَالَ مَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ،وَمَا أُوتِيَتْ مِنْ كَرَامَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فاصْطَفَاهَا اللهُ رَبُّهَا،وَأَرْسَلَ إِليهَا مَلَكاً كَرِيماً مَنْ مَلاَئِكَتِهِ تَمَثَّلَ لَهَا فِي صَورَةِ بَشَرٍ دَخَلَ عَلَيهَا،وَهِيَ فِي خَلْوَتِهَا،فَاسْتَعَاذَتْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِ،فَبَشَّرَهَا بِأَنَّهَا سَيَكُونُ لَهَا وَلَدٌ يُولَدُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ،وَيَكُونَ نِبِيّاً كَرِيماً .وَنَفَخَ فِيهَا المَلَكُ مِنْ رُوحِ اللهِ فَحَمَلَتْ بِعِيسَى،عَلَيْهِ السَّلاَمُ،وَصَدَّقَتْ مَرْيَمُ بِشَرَائِعِ اللهِ،وَبِكُتُبِهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ،وَكَانَتْ فِي عِدَادِ القَانِتِينَ العَابِدِينَ المُطِيعِينَ للهِ تَعَالَى .
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود